“الحضرة” و”رباعي أوتار”

تلاقي المحلية الصوفية مع الكلاسيكية العالمية

by AlHadara
89 views

في كتابه “تراث الغناء العربي من إسحق الموصلي وزرياب.. إلى أم كلثوم وعبد الوهاب” قال الأستاذ “كمال النجمي” كلمةً مهمة تعطي بعدًا تفسيريًا لكيفية نشوء المنتج الفني من تفاعل أطرافه (الفنان، المتلقي، الناقد) بعضهم مع بعض، حيث قال ما معناه: “إنما يعتمد التافهون في صعودهم على فساد الذوق، ثم يساهمون بمجموعهم في تشكيل ذوقٍ أكثر انحدارًا في وقت لاحق”..
أي أنه أناط رقي الوسط الفني بقضية “الذوق”، وجعل هذا “الذوق” مادةً ليّنة قابلة للتشكُّل بما يُطرح في السوق من منتج فني، وبكيفية استقبال المتلقي لهذا المنتج، وبتسليم حالة التلقي الأولى –على اختلاف اتجاهاتها- لمرحلة أخرى أكثر انحدارًا أو رقيًا بحسب جودة المنتج إذا ما قيس على القواعد الفنية المنضبطة التي وضعها المتخصصون.

وكمحاولة لتوظيف المعنى المذكور، التقت أفكار أعضاء فرقتي “الحضرة”، و”رباعي أوتار” على طريق واحد: سنحاول أن نكون العنصر الفاعل في تشكيل ذوق راقٍ لدى الجماهير يلفظ الرديء ويحتضن الجيد ويساهم في انتشاره.. لكن، حتى يتحقق هذا الأمر لابد أولًا من تخطي عقبتين: العقبة الأولى كانت: استطاعة جذب انتباه شرائح مختلفة من الجمهور لتكون التجربة أكثر عمومية وشمولية، والعقبة الثانية كانت: أن يكون المنتج الفني المطروح جديدًا بشكل ما ولا يمكن تصنيفه ضمن أي دائرة من الدوائر الموجودة بالفعل، وذلك لضمان أن لا تكون ردود فعل الجماهير مبنية على ميولها السابقة، بل تكون ردود فعل محايدة تمامًا تجاه منتج يقفون منه جميعًا على بعد واحد أو متقارب.

وفي سبيل تخطي هاتين العقبتين تم الاستقرار على تخليق لون جديد من الفن الغنائي الموسيقي عن طريق الدمج أو “المزج”، وذلك لأن المزج يكون عادةً نتاج عدة مسارات موسيقية لكل مسار منها جمهوره، وبالتالي فهي فرصة مواتية لجذب شرائح مختلفة ومنوعة.. وكذلك لأن “المزج” رغم ما يتألف منه من العناصر إلا أنه يكون مختلفًا عن جميعها، ولذلك فبالرغم من كونه تطويعًا للموجود لا تخليقًا خالصًا؛ يظل المنتج النهائي ذا كيان مستقل وروح مختلفة وطعم مغاير.. فضلًا عن أن المزج إذا تم إتقانه فإن الناتج النهائي عنه يكون جامعًا بين الأصالة والتجديد، لأنه نتاج ألوان موسيقية أصيلة ومعروفة، المهم فقط أن يستطاع إيجاد انسجام واضح بين روح كل لون من هذه الألوان لتفادي الاضطراب والتشويش وفقد الروح.

كذلك يجدر بنا ذكر أن هذا الـ”مزج” لم يكن تعسفيًا مستكرهًا، بمعنى أنه لم يتم الجلوس والانغماس في محاولات مقصودة لاستجداء الخروج بمنتج جديد، وإنما كان نتاجًا لتلاقي أفكار وأذواق القائمين على تجربة “الحضرة” و”رباعي أوتار”، لذلك لم يكن تشكل اللون النهائي متعسرًا على الإطلاق، بل كانت الأمور تسير في سلاسة واضحة بما يعني أن التجربة كانت تجربة توافقية شبه مكتملة في الأذهان، وليست تجربة تعسفية جاءت نتاج تجارب عشوائية.


تعريف بمجموعة “الحضرة”:

الحضرة هي فرقة إنشاد تهدف إلى نقل تراث الحضرات الصوفية المصرية من المجالس والساحات والجوامع إلى المسارح، في صورة عرض فني لا يغفل جانب جودة الصنعة الفنية، لكنه كذلك لا يهمل الجانب الرسالي وهو الحفاظ على أحد أهم مكونات التراث الديني الشعبي المصري في ظل ازدحام الواقع الاجتماعي العربي بفكر ديني حاد وجاف يفرغ الممارسات الروحية من مضمونها ويعمل على طمسها ومحوها أو التنفير منها.

وينقسم عرض “الحضرة” إلى قسمين، القسم الأول عبارة عن إنشاد ديني لمدائح نبوية وقصائد في الحب الإلهي، وتتنوع الكلمات والألحان التي تؤديها الفرقة بين الأصيل الذي يُنشأ من الأساس بواسطة بعض أعضاء الفرقة، وبين المستعار الذي يؤخذ عن الساحات والجوامع من قصائد كبار السادة الصوفية المنتقلين والأحياء.
والقسم الثاني عبارة عن مجلس للذكر الجماعي، يذكر فيه أعضاء المجموعة الله جهرًا بأسمائه الحسنى المفردة، وكذلك بكلمة التوحيد (لا إله إلا الله)، في هيئة خاشعة، ويعد هذا القسم استنساخًا كاملًا للطقس الديني الذي يمارسه المتصوفة في الساحات والمساجد في شتى الطرق الصوفية المصرية.


تعريف بمجموعة “رباعي أوتار”:

مجموعة “رباعي أوتار” هو مشروع موسيقي مؤلف من أربعة عازفين (عازف تشيلو، وعازف فيولا، وعدد 2 عازفي كمان.. جميعهم أعضاء في أوركسترا أوبرا القاهرة السيمفوني)، يقومون بأداء مقطوعات الموسيقى الكلاسيكية العالمية.. وترجع القيمة الكبيرة لما تقدمه المجموعة إلى أكثر من سبب، أهمها أن المقطوعات الكلاسيكية لا تؤدى عادة إلا بواسطة أوركسترا كاملة، وبالتالي فلا يمكن استضافة مثل هذه العروض على مسارح الدور الفنية والثقافية الصغيرة التي يرتادها الشباب عادةً، فقامت مجموعة “رباعي أوتار” بضغط العدد المطلوب لأداء هذه المقطوعات فقط في أربعة أفراد هم أعضاء المجموعة، وهذا جعل هذه المقطوعات تعزف بشكل حي لأول مرة خارج مسارح الأوبرا الكبيرة بواسطة هذه المجموعة، مما ساعد على انتشار هذا اللون الموسيقي في أوساط كانت بعيدة تمامًا عن تلقيه والتفاعل معه وتذوقه.


فلسفة المزج:

أشرنا سابقًا إلى أن المزج لم يحدث بشكل متعسف أو مستكره، وإنما كان نتاجًا عفويًا لتلاقي أفكار القائمين على تطوير الجانب الفني في كل من المجموعتين (الحضرة، ورباعي أوتار)، وكمحاولة لاستخراج بعض أسباب هذا التلاقي قمنا برصد عدة نقاط مشتركة بين المجموعتين، جعلت هذا المزج مستساغًا مقبولًا قبل حتى أن يطرح للجمهور ونلمس ردود فعلهم الإيجابية عليه، وهذه النقاط يمكن تلخيصها في الآتي:

– تشترك مجموعة “الحضرة” مع مجموعة “رباعي أوتار” في أنهما يقدمان لونين تراثيين (على اختلاف بيئتيهما).

– تشترك مجموعة “الحضرة” مع مجموعة “رباعي أوتار” في أنهما يسعيان لنقل لون فني معين من بيئة ضيقة إلى بيئة أكثر اتساعًا، والخروج به من شرائح الجمهور المنحصر فيها إلى شرائح أخرى.

– تشترك الموسيقى الكلاسيكية التي تقدمها مجموعة “رباعي أوتار” مع الغناء الصوفي الذي تقدمه مجموعة “الحضرة” في أنهما يخاطبان الروح بشكل مباشر ويتطلبان حالة معينة من الصفاء والتسامي والانعزال الحسي والانطلاق النفسي.


الإنتاج:

وجاء ناتج هذا العمل المشترك بين المجموعتين على أربعة أنواع:
الأول: إنتاج موسيقي خالص بين عازفي المجموعتين.
الثاني: استعارة بعض القصائد الموجودة على الساحة الفنية وإعادة تقديمها.
الثالث: إعادة أداء بعض قصائد مجموعة “الحضرة” برؤية موسيقية جديدة.
الرابع: أداء بعض القصائد الصوفية على مقطوعات موسيقى كلاسيكية شهيرة.

– في النوع الأول قامت مجموعة “رباعي أوتار” بأداء بعض مقطوعات الكلاسيك العالمي ذات الإيقاع السريع والروح المتصاعدة، على خلفية إيقاعية شرقية من أداء عازف إيقاع مجموعة “الحضرة”: “مصطفى عبد الله”.

– وفي النوع الثاني تم أداء قصائد: “مدد يا رسول الله – محمد منير”، و”والله ما طلعت شمس ولا غربت – عمر خيرت”، و”يا نسيم الريح – مارسيل خليفة”.

– وفي النوع الثالث تم أداء قصائد: “إننا فقراء” و”الله – سماع” و “حلفت بسرك الأسمى”، وهي قصائد معروفة لمجموعة “الحضرة” أعيد أداؤها بخلفية موسيقية جديدة.

– وفي النوع الرابع تم أداء قصيدة “البردة الشريفة” على خلفية موسيقية لمقطوعة: “Canon in D Minor” الكلاسيكية.


العروض:

خرج المشروع المشترك إلى قاعات العرض لأول مرة على مسرح “قاعة ألنهر” بـ”ساقية الصاوي” بالزمالك في يوم الجمعة 23 سبتمبر 2016م (رابط الفعالية الإلكترونية)، وحقق رضىً وقبولًا واسعًا دعا المجموعتين إلى تكراره في نفس المكان يوم الجمعة 16 ديسمبر من نفس العام ضمن احتفالات مجموعة “الحضرة” بالمولد النبوي الشريف (رابط الفعالية الإلكترونية)، ثم كان آخر عروض المشروع المشترك في موسم شهر رمضان ضمن برنامج الليالي الرمضانية بدار الأوبرا المصرية (الأربعاء 9 أغسطس 2017م على المسرح المكشوف)، وحقق الحفل حضورًا غير مسبوق على المسرح المذكور (رابط الفعالية الإلكترونية).


التطلعات:

بعد سلسلة من العروض الناجحة يتطلع المشروع المشترك إلى تطوير إنتاجه للوصول إلى هيئة أكثر كمالًا، بزيادة جانب الإنتاج من النوع الرابع، وزيادة عدد الموسيقيين المشاركين في التجربة لملء فجوات الخلفية، وكذلك تطوير مكونات العرض بإضافة مجموعات أخرى ذات أداء حركي (راقصي تنورة مثلًا) أو صوتي (مؤثرات بشرية مثلًا) بحسب الحاجة، وصهر كافة هذه العناصر المكونة معًا في بوتقة واحدة للخروج بمنتج منتظم ومنسجم، ولخلق عالم كامل من التحليق الروحي بفعل الموسيقى.. لكن عامل: المكان الذي يمكنه استيعاب عرض بهذا الحجم وبتجهيزات استثنائية، بالإضافة للعامل المادي، يمثلان معًا عوائق إتمام مثل هذا التصور، لكن لا يزال العزم أكيدًا على استغلال أي فرصة لإتمامه متى سنحت.

Leave a Comment